فصل: مطلب في البيت الحوام والبيت المقدس وفرض الحج وسقوطه وتاريخ فرضه والزكاة والصوم والصلاة أيضا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا حال اليأس كما بينته في الآية المذكورة قال في بدء الأمالي:
وما إيمان شخص حال يأس ** بمقبول لفقد الامتثال

وقد علم أنهم لم يتوبوا قبل نزول الموت، لذلك قال لن تقبل توبتهم، وإنما يظهرونه نفاقا إيمانا كان أو توبة ولا قيمة لهما عند الله، لأنه لا يقبل إلا الخالص من الإيمان والنصوح من التوبة، وهؤلاء فضلا عن أنه لا يقبل توبتهم فإنه يزيدهم وبإلا على وبالهم إذ لا تقبل توبة من أقام على شرك أو نفاق حتى يقلع عنهما أو يتوب توبة خالصة قبل وقت الحشرجة بأن يكون له أمل بالحياة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)} ينصرونهم ويخلصونهم من ذلك.
ومن المعلوم أن أحدا لا يملك يوم القيامة شيئا ولا يقبل منه الفداء على سبيل الفرض بأنه يقدر عليه لينجي نفسه من عذاب الله، فلو أمكنه التقرب إلى الله بخلاصه مما حل به بملء الأرض ذهبا لفعل، وأنّى له ذلك؟
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟
فيقول نعم، فيقول أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا الشرك.
ألا فلينتبه العاصون، ألا فليحذر اللاهون، ألا فليتفطن الغافلون، وليشتروا أنفسهم من عذاب الله حال قدرتهم عليه، ولينفقوا من أموالهم قبل أن يتركوها لغيرهم ويلقون وبالهم عند الله وحدهم.
تشير هذه الآية إلى مصير الذين يموتون على كفرهم والعياذ بالله بأن هذا مصيرهم، وأن ما أسلفوه من عمل لا عبرة به لأن الشرط بحصول الثواب على الأعمال هو الإسلام والإيمان، وترمي إلى أن العبرة بخواتيم العمر فمن مات مؤمنا فقد نجا والله أولى بأن يعفو عنه، ومن مات على كفره فقد هلك ولا ناصر له من الله، وهذه الآيات من 84 إلى هنا تضاهي الآيات من 134 إلى 140 ومن 159 وإلى 62.
من سورة البقرة.
قال تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ} أيها الناس ولن تعطوا الخير الكثير والإحسان الجزيل فتعدوا من الأبرار المحسنين {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} من أنفس أموالكم لتؤجروا عليها بأحسن منها، وهذه الآية بمقابل قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الآية 267 من سورة البقرة {وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} نفيس تحبونه أو خبيث تكرهونه {فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ (92)} فيجازيكم على حسبه، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك.
وعن وابصة بن معبد الجهني دفين الرقة قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البرّ؟ قلت نعم: فقال استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأقنوك.
- بالقاف أي أرضوك- وروي بالفاء وأفتوك من الفتيا، وهي الإرضاء أيضا، والمعنى وإن أقنعك المفتون بأنه ليس بإثم فلا تقبل منهم لأن الإثم يحز القلب والبر يشرحه وهذا الحديث من باب الكشف لما روي أن رابصة جاء يتخطى الناس حتى جلس بين يدي رسول الله فقال له تحدثني بما جئت به أو أحدثك، فقال بل تحدثني يا رسول الله فهو أحب إلي، قال جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال نعم، ورويا عن أنس بن مالك قال كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه (بئر ماء) وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ} الآية وإن أحب أموالي إلي (بئر ماء) وإنها صدقة للّه عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال صلّى الله عليه وسلم بخ بخ ذلك مال رابح أو قال رائج أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه، وهي حائط (بستان) عظيم فيه ماء، ومن هذا أخذ الوقف الذري وتداول حتى الآن، وأبقى أسماء الواقفين مخلدة بالذكر الحسن ويعيش بخيرهم جماعات يدعون لهم بالخير كلما انتفعوا، وهذا هو الصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها فهو رضي الله عنه أول من سن الوقف بإرشاد رسول الله فله أجره إلى يوم القيامة في صريح قوله صلّى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة إلخ الحديث، وقوله صلّى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث أحدها الصدقة الجارية (وبخ) كلمة تحسين تقال عند ما يرى الإنسان أو يسمع ما يحب ويستحسن وهي مبنية على السكون، وتكرر للمبالغة بالكسر والتنوين، ثم إن بعض الأصحاب اقتدوا بأبي طلحة وتصدقوا من أموالهم النفيسة على أقاربهم وذراريهم كعمر وابنه عبد الله وزيد بن حارثة، وتفيد هذه الآية بان الطاعة إنما تتحقق بتضحية النفيس وإنفاق العزيز من المال وإن خير الصدقة المستمرة الدائمة وأحسنها التي تخصص للأقارب، قالوا نزل ضيف عند أبي ذرّ فقال للراعي ائتني بخير إبلي فجاءه بناقة مهزولة، فقال له خنتني، فقال الراعي وجدت خير إبلك فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر يوم حاجتي إليه يوم أوضع في قبري.
ولما قال اليهود يا محمد تزعم أنك على دين إبراهيم وتأكل لحوم الإبل ولبنها وهو لا يفعل ذلك، فقال لم يحرمه إبراهيم، فقالوا كل ما نحرم اليوم بمقتضى التوراة فهو حرام على نوح وإبراهيم وانتهى إلينا كذلك، فأنزل الله عز وجل: {كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسرائيل إِلَّا ما حَرَّمَ إسرائيل عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ} لأن يعقوب عليه السّلام اعتراه مرض قيل هو عرق النسا وقد منعه الطبيب من أكل لحوم الإبل بداعي أنه يزيد في ذلك المرض فحرمه على نفسه لهذه العلة لا بتحريم الله تعالى، وقد اقتفى أولاده أثره بعدم أكلها، فلما أنزلت التوراة حرمه الله على بني إسرائيل، فأنكروا ذلك فقال تعالى يا سيد الرسل {قُلْ} لهؤلاء المعاندين {فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)} بأن الإبل كانت محرمة على إبراهيم فأتوا بها فلم يجدوا ذلك وظهر كذبهم، وهذا من معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه من قبيل الأخبار بالغيب إذا لم يقرأ ولم يعرف ما في التوراة، ففي هذه الآية ردّ على قول اليهود بأن النسخ غير جائز إذ جاء بالقرآن حل لحوم الإبل، راجع الآية 145 من سورة الأنعام وهو ناسخ لما في التوراة كما جاء في الإنجيل نسخ بعض أحكامها بالنظر للمصلحة والعصر كما في الآية 49 المارة، وهذا معنى قوله تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها} الآية 107 من البقرة المارة بالنسبة لما تقتضيه المصلحة والزمان ولانقضاء الوقت المقدر للعمل فيه عند الله تعالى كما ذكر الشيخ محي الدين في فتوحاته، ومن هنا أخذت قاعدة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ومن هذا قول علي كرم الله وجهه لا تقسروا أولادكم على طباعكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمانكم.
قالوا والسبب في إصابة يعقوب هو أنه كان نذر لأن أعطاه الله اثنى عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا ليذبحنّ أحدهم تقربا إلى الله تعالى، ولما منّ الله عليه بذلك توجه لبيت المقدس لإيفاء نذره فلقيه ملك على صورة بشر فحسبه لصا فتصارع معه فغمزه في فخذه.
فعرض له عرق النسا، ولما وصل أراد ذبح ابنه ولم يعرف أيهم يذبح، فجاءه الملك الذي عرض له وقال لا سبيل لك لذبحه لأنك لم تصل صحيحا، وإنما غمزتك في فخذك للمخرج من نذرك فكف عن ذبحه، وهناك منعه الأطباء عن أكل لحوم الإبل ولبنها، وقد ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم دواء هذا العرق بقوله: شفاء عرق النساء إلية شاة اعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم تشرب على الريق كل يوم جزءا.
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه والحاكم وهو حديث صحيح كما في شرح العزيزي، قال أنس رضي الله عنه قد وصفت ذلك لثلاثمأة نفس كلهم تعافوا.
وهذا والله أعلم، إذا حصل من يبس في بلاد حارة كالحجاز، لأن فيها تليينا وإنضاجا.
وقيل إذا طبخ دماغ الوطواط بدهن الورد ودهن به عرق النسا يسكن وجعه بإذن الله.
ومثل ما وقع لسيدنا يعقوب وقع لعبد المطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلم إلا أنه فدى ابنه الذي أراد ذبحه بمئة من الإبل ولهذا صارت دية الرجل مائة من الإبل.
قال تعالى: {فَمَنِ افْتَرى عَلَى الله الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ}.
البرهان القاطع الدال على كذب اليهود وحل أكل لحوم الإبل وألبأنها زمن إبراهيم عليه السلام وأصر على افترائه {فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (94) أنفسهم وغيرهم {قُلْ} يا سيد الرسل {صَدَقَ الله} وكذبتم أيها اليهود {فَاتَّبِعُوا} أيها الناس {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ}.
التي يدعوكم إليها محمد وانقادوا لأمره وليكن كل منكم {حَنِيفًا} مائلا عن كل دين خاضعا لدين محمد دين الإسلام الذي هو عليه وأصحابه {وَما كانَ} إبراهيم قط {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (95) كما أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولم يعبد غير الله، وهكذا كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم يولدون على الفطرة ويتعبدون بما يلهمون من تعاليم الله أو مما كان عليه الأنبياء قبلهم.

.مطلب في البيت الحوام والبيت المقدس وفرض الحج وسقوطه وتاريخ فرضه والزكاة والصوم والصلاة أيضا:

ولما قال اليهود للمسلمين بعد تبدل القبلة إن بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ومدفنهم ومهبط الوحي وفيه الصخرة الشريفة محل عروج الأنبياء إلى السماء وهي أقرب وجه الأرض فيها إليها وفلسطين أرض المحشر وأقدم قبلة استقبلت في الصلاة، أنزل الله ردا عليهم {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} قبلة {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} وليس بيت المقدس، وجاء بالباء لأن العرب تعاقب بين الباء والميم فيقولون ضربة لازب، وضربة لازم، ومكة، وبكة، لأن الناس يتباكون حولها قديما وحديثا، ويطلق هذا اللفظ على البيت نفسه وموضع المسجد فيها مما هو محيط به، ويوجد في المسجد الأقصى محل تسميه اليهود المبكى فهم يقفون فيه يبكون حتى الآن، وسميت مكة لقلة مائها يقال مك الفصيل أمه إذا لم يبق فيها لبنا.
روى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض فقال المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى، قلت كم بينهما؟ قال أربعون عاما ثم الأرض لك مسجدا، فحينما أدركتك الصلاة فصل.
زاد البخاري فإن الفضل فيه {مُبارَكًا} بيت مكة تشمل بركته الأرض كلها {وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96)} فيها إذا وقفوا لزيارتها مؤمنين بربها يهتدون بهديه ويتباكون حوله طلبا لمغفرة ما سلف منهم ولما عند الله من الرحمة بهم {فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ} منها {مَقامُ إِبْراهِيمَ} وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بنائه، راجع الآية 125 من البقرة المارة في بحثه، {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} وهذا من جملة آياته أيضا، قال أبو حنيفة رحمه الله إن من وجب عليه القصاص أو الحد لا يستوفى منه فيه ما زال ملتجئا إلى الحر.
ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا بشارى ويضيّق عليه حتى يخرج منه ليقنص من لئلا تتعطل الحدود، أما إذا قتل أو سرق بالحرم فيستوفى منه الحدّ فيه عقوبة له لخرقه حرمة الحرم في الحرم بخلاف الأول، وهذا هو الحكم الشرعي في هذا وقال بعض المفسرين إن معنى آمنا أي من العذاب مطلقا وهو محمول على أنه إذا لم يقترف ما يستوجب العقوبة بعد حجة مما يستدل به على قبول حجة، أما من كانت حالته قبل الحج أحسن من بعده فلا، لأن ذلك دليل على عدم القبول أجارنا الله من ذلك.
تشير هذه الآية إلى أن هذا البيت وضعه الله لجميع خلقه وأوجب الأمن لمن دخله منهم أجمع وعم بركته فيهم، فمن آمن واتقى فقد فاز بخير الدنيا والآخرة، ومن أعرض فأمره إلى الله، يدل عليه قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فلم يخص فيه أحدا، بل أوجب فرض زيارته على جميع خلقه، ولم يستثن أحدا إلا العاجز، إذ أبدل من عموم لفظ الناس {مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} لأن الله تعالى لا يكلف غير المستطيع لقوله: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية، وما قاله بعضهم من من فاعل لكلمة حج لا وجه له ولا عبرة فيه، إذ يكون المعنى أن الناس كلهم مكلفون بإقسار المستطيع على فعل الحج، وهذا غير معقول، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.
وتفيد اللام في للّه وعلى بعدها التأكيد والتشديد على فعل الحج والحكم الشرعي وجوبه على المستطيع مرة في العمر.
روى مسلم عن أبي هر قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجو فقال له رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم.
والقيد بالاستطاعة ينفي الوجوب على غير المستطيع لعموم القدرة على ما يوصله إليه وعدم وجود ما يكفيه وأهله مدة ذهابه وإيابه أو لعدم أمن الطريق، وما جاء عن ابن عمر في حديث الزاد والراحلة لم يثبت، ليس بمتصل وسنده فيه إبراهيم بن زيد الجوزي متروك الحديث، وقال يحيى معين أنه ليس بثقة، وكذلك ما جاء عن علي كرم الله وجه لأن في إسناده مقالا وفيه هلال بن عبد الله مجهول والحارث يضعف في الحديث، وقال الترمذي فيه حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولأنهما وحدهما لا يكفيان ولا يعد القادر عليهما فقط مستطيعا، لأن المستطيع ينبغي أن يكون صحيحا قادرا على لوازم الحج ذهابا وإيابا فضلا عن دينه وحوائجه وأهله وضرورياتهم مدة ذهابه وإيابه وعلى نفقة من تلزمه نفقته أيضا، فإذا فقد شيء من هذا انتفت الاستطاعة وسقط الفرض، أما العاجز جسما لمرض أو هرم فيشترط له علاوة على ما تقدم القدرة على نفقة من يقوم بخدمته ذهابا وإيابا وإلا فلا يعد مستطيعا أيضا، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من قثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال نعم.
وذلك في حجة الوداع أخرجاه في الصحيحين- والعجز لزمانه كذلك، ويشترط مع أمن الطريق وجود الماء في كل مرحلة، ووجود الرفقة أيضا لكراهة السفر للواحد والاثنين، وإذا كان في الطريق من يطلب خفارة عند المرور منه كأعراب البادية الذين يطلبون خوّة ممن يمرّ بهم فلا يعد أمنا، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك.
هذا ولما تلا هذه الآية حضرة الرسول على جميع أهل الأديان إذ ذاك وهم المبينون في الآية 18 من سورة الحج الآتية، قالت اليهود والنصارى ومن تابعهم لا نحج هذا البيت ولا نصلي إليه، أنزل الله: {وَمَنْ كَفَرَ} أي ومن جحد فريضة الحج فهو كافر {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)} وعن طاعتهم لأن كلمة ومن كفر تفيد معنى ومن لم يحج، وهذا تغليظ عظيم على تارك الحج مع القدرة، وفي ذكر الاستغناء دليل على المقت والعياذ بالله والسخط على التارك له كلا.
وفي قوله: {الْعالَمِينَ} بدل عن عنه إشارة إلى عظيم غضب الله على من يترك الحج استغناء، لأن الاستغناء عن العالمين يتناول التارك مبدئيا ولم يخصه تهاونا بشأنه واستخفافا به.